الأربعاء، 8 فبراير 2012

مقدمة الكتاب (3): دراسة المستحيل


من سخرية القدر أن الدراسة الجادة للمستحيل قد فتحت للعلم مجالات غنية وغير متوقعة بالكلية. فعلى سبيل المثال، عبر قرون من البحث العقيم والمخيب للآمال عن "الآلة دائمة الحركة"(*) أدى بالفيزيائيين إلى إستنتاج إستحالة تصميم تلك الآلة، ولكنه أيضا قادهم إلى طرح مبدأ بقاء الطاقة والقوانين الثلاثة للديناميكا الحرارية(*). وبذلك ساعد البحث العقيم بهدف بناء الآلة دائمة الحركة على إكتشاف مجال جديد كلية وهو الديناميكا الحرارية، والتي ساهمت في جزء منها في تصنيع المحرك البخاري وبالتالي دخول عصر الآلات ومن ثم المجتمع الصناعي الحديث.       
قرر العلماء في نهايات القرن التاسع عشر أنه من "المستحيل" أن يكون عمر الآرض مليارات السنين. فقد أكد اللورد كلفن بوضوح أن الأرض المنصهرة سوف تستغرق من 20 إلى 40 مليون سنة حتى تصبح باردة، مناقضا للجيولوجيين وعلماء الأحياء الداروينيين الذين يدعون أن عمر الأرض قد يكون مليارات السنوات.     
تجاهلنا للمستحيل يعرضنا للخطر. ففي عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين تعرض روبرت جودارد – مؤسس علم الصواريخ الحديث – لنقد عنيف ممن كانوا يعتقدون أن الصواريخ لا يمكنها الانتقال في الفضاء الخارجي. وبسخرية أطلقوا على مساعيه تلك حماقة جودارد. وفي عام 1921 هاجم محرري النيويورك تايمز عمل دكتور جودارد قائلين "الأستاذ جودارد لا يعرف العلاقة بين الفعل ورد الفعل، ولا الإحتياج لشيء أفضل من الفراغ كي يصنع معه رد فعل، يبدو أنه يفتقد إلى المعارف الأساسية التي تدرس يوميا في المدارس الثانوية". يؤكد المحررون أن صواريخ الفضاء مستحيلة لعدم وجود هواء تدفع المحركات ضده في الفضاء الخارجي. وللأسف فهم رئيس دولة – أدولف هتلر -  ما تنطوي عليه فكرة صواريخ جودارد "المستحيلة". وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كان وابل نيران صواريخ جودارد "المستحيلة" تمطر الموت والدمار على لندن، وكادت بالفعل تجثو على ركبتيها أمامها.     
دراسة المستحيل قد تغير مسار تاريخ العالم أيضا، ففي خمسينيات القرن العشرين كان يعتقد على نطاق واسع بما في هؤلاء أينشتين نفسه أن القنبلة الذرية "مستحيلة الصنع". كان الفيزيائيون يعلمون بوجود كمية هائلة من الطاقة محتواة في عمق النواة الذرية، تبعا لمعادلة آينشتين (الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء)، ولكن الطاقة المحررة من نواة واحدة تعتبر ضئيلة الاعتبار. ولكن الفيزيائي الذري ليو زيلارد تذكر قراءته لرواية ه. ج. ويلز التي كتبها عام 1914 "تحرير العالم" وفيها يتنبأ ويلز بتطوير القنبلة الذرية.
في كتابه يقول ويلز أن فيزيائيا سيقوم بحل سر القنبلة الذرية عام 1933. وبالصدفة عثر زيلارد على ذلك الكتاب في عام 1932 وبإيعاز من تلك الرواية – في عام 1933 – وبالضبط كما تنبأ ويلز منذ عقدين من الزمان، وضع زيلارد فكرة تضخيم طاقة الذرة المفردة بواسطة التفاعل المتسلسل، بحيث يمكن تضخيم الطاقة المستخرجة من نواة ذرة يورانيوم واحدة بمقدار مليارات المرات. بدأ زيلارد بعدها بالفعل في سلسلة من التجارب الأساسية و مفاوضات سرية بين آينشتين والرئيس فرانكلين روزفلت أدت إلى إقامة مشروع مانهاتن الذي أنشأ القنبلة الذرية. 
مرة تلو أخرى نرى أن دراسة المستحيل قد فتحت آفاقا جديدة، تدحض ما يتصور أنه نهاية حدود الفيزياء والكيمياء وتضيف إليه تخوما جديدة وتجبر العلماء على إعادة تعريف ما يعنونه ب "المستحيل". كما قال سير ويليام أوسير ذات مرة " فلسفات عصر ما تصبح هراء العصر الذي يليه، وسخافات الأمس هي حكمة اليوم"   
كثير من الفيزيائيين يقرون بمقولة ت. ه. وايت المأثورة التي كتبها في رواية ملك قطبي الزمان(*) والتي يقول فيها "أي شيء غير ممنوع، حدوثه بالضرورة وجوبي!"، نجد الدليل طوال الوقت على ذلك في علم الطبيعة. لا يمنع حدوث ظاهرة فيزيائية جديدة إلا وجود قانون فيزيائي صريح ينفي إمكانية حدوثها. (وقد حدث هذا مرات عديدة في البحث عن جسيمات أولية(*) جديدة. بجس حدود المحظور، إكتشف الفيزيائيين قوانين فيزيائية جديدة غير متوقعة) وكنتيجة طبيعية لمقولة وايت قد يكون جيدا أن نقول " أي شيء غير مستحيل، حدوثه وجوبي بالضرورة".
 على سبيل المثال، حاول عالم الكونيات ستيفن هاوكينج أن يثبت استحالة السفر عبر الزمن، وذلك بالبحث عن قانون فيزيائي جديد يحظر ذلك، وهو ما أطلق عليه "حماية حدس التسلسل الزمني".
و لسوء حظه، كان غير قادر بعد سنوات كثيرة من العمل الشاق أن يثبت هذا المبدأ. وبالنقيض من ذلك، فإن الفيزيائيين الآن في الحقيقة قد تبينوا أن القانون الذي يمنع السفر عبر الزمن خارج نطاق إمكانيات الرياضيات المتاحة اليوم.  
  ولعدم وجود قانون فيزيائي يمنع وجود آلات الزمن اليوم، فعلى الفيزيائيين أن يتعاملوا مع تلك الإمكانية بجدية شديدة.
 الغرض من هذا الكتاب هو التمعن في التكنولوجيات التي نعتبرها اليوم "مستحيلة" والتي يمكن أن تصبح أشياء عادية ومألوفة خلال عقود أو قرون من الآن.
فعليا واحدة من التكنولوجيات "المستحيلة" ثبت إمكانيتها وهي الانتقال الآني(*) (على المستوى الذري على الأقل). حتى سنوات قليلة مضت كان الفيزيائيون يقولون أن إرسال جسم من نقطة إلى أخرى ( دون المرور بما بين هاتين النقطتين من فراغ مكاني )   يناقض قوانين الفيزياء الكمية. في الحقيقة كان الفيزيائيون يوجهون سهام النقد اللازع لكتاب مسلسل رحلة النجوم الذين حاولوا أن يدعموا فكرة الناقل الآني باختلاقهم لفكرة "معوضات هايزنبرج" لآلتهم والتي كانت وظيفتها تحديد مسار الأجسام التي يرسلونها. واليوم وكنتيجة لتقدمات مفاجئة فإن الفيزيائيون يستطيعون إرسال بعض الذرات آنيا عبر غرفة أو نقل فوتونات آنيا من أسفل نهر الدانوب.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق