تعلمت كفيزيائي أن "المستحيل" مصطلح نسبي. أتذكر معلمتي عندما كنت طفلا تتجه إلى خريطة الأرض على الحائط لتشير إلى سواحل أمريكا الجنوبية وأفريقيا قائلة: "هل كان ذلك مجرد مصادفة شاذة؟ هل هي صدفة أن الساحلين يكمل كل منهما الآخر حد التطابق؟ تما مثل أجزاء البازل، واستطردت قائلة أن بعض العلماء يتوقعون أنهما كان يشكلان أرضا واحدة، قارة شاسعة. ولكنها استطردت أن حديثها يبدو أحمقا، مستطردة لا أتصور قوة يمكنها أن تدفع قارتين عملاقتين لتتباعدا عن بعضهما". واستنتجت أن فكرتها تلك مستحيلة.
وفي وقت لاحق من ذلك العام درسنا الديناصورات. وأخبرتنا المعلمة "ألا يبدو هذا غريبا؟ الديناصورات تسود الأرض لملايين السنين، وفجأة ذات يوم تختفي تماما؟ لا أحد يعرف لماذا ماتوا جميعا. بعض علماء الحفريات يعتقدون أن نيزكا من الفضاء قتلهم جميعا، لكن هذا يبدو مستحيلا، ولا يبدو لي أكثر من مجرد خيال علمي.
واليوم نحن نعلم أن القارات تتحرك عبر الصفائح التكتونية، أيضا نعلم أن نيزكا هائلا بمقياس ستة أميال محا الديناصورات ومعظم أشكال الحياة من على سطح الأرض منذ 65 مليون سنة. وفي حياتي القصيرة رأيت مرات عديدة ما يبدو مستحيلا يتحول إلى حقيقة علمية مؤكدة. وهكذا أيبدو مستحيلا أن نفكر أننا قد نكون قادرين في يوم ما على نقل أنفسنا آنيا(*) من مكان لآخر؟، أو أن نبني سفنا فضائية ذات يوم تأخذنا إلى نجوم على بعد سنوات ضوئية؟
بالطبع تلك الأعمال الفذة تعتبر مستحيلة في نظر فيزيائيي اليوم. ولكن هل تصبح ممكنة خلال القرون القليلة المقبلة؟ أو خلال عشرة آلاف سنة، عندما تصبح التكنولوجيا أكثر تقدما؟ أو خلال مليون سنة؟ دعونا نتناول الأمر بطريقة أخرى، إذا صادفنا بطريقة ما حضارة متقدمة عنا بملايين السنين، هل ستبدو التكنولوجيا الاعتيادية الخاصة بهم "سحر" بالنسبة لنا؟ هذا في جوهره واحد من أسئلتنا المركزية التي نتناولها عبر ذلك الكتاب، فقط لأن شيء ما "مستحيل" اليوم، فسوف يظل بناءا على هذا مستحيلا لقرون أو لملايين من السنوات في المستقبل؟
نظرا لتقدم العلم الملحوظ في القرن الماضي، وعلى وجه الخصوص نشأة النظرية الكمية(*) والنسبية العامة(*)، باستطاعتنا الآن أن نخمن بطريقة تقريبية متى يمكن أن نحقق تلك التكنولوجيا الرائعة. خاصة مع ظهور نظريات أخرى متقدمة كنظرية الأوتار(*) ، وافتراضات أخرى تقف على مشارف الخيال العلمي يعيد الفيزيائيين تقييمها الآن كالسفر عبر الزمن والأكوان المتوازية(*). عد بذاكرتك إلى المائة وخمسين عاما الماضية وتلك التقدمات التكنولوجية التي ظن العلماء استحالتها في ذلك الوقت، وأصبحت الآن جزء من حياتنا اليومية.
كتب جول فيرن عام 1863 رواية بعنوان (باريس في القرن العشرين)، وفقدت تلك الرواية ونسيت أيضا لأكثر من قرن حتى عثر عليها أحد أحفاده المتأخرين ونشرت لأول مرة سنة 1994. في تلك الرواية يتخيل فيرن ما ستبدو عليه باريس سنة 1960. كانت روايته تلك مليئة بالتكنولوجيا التي إعتبرها البشر مستحيلة في القرن التاسع عشر، كآلات الفاكس، شبكة إتصالات عالمية، ناطحات سحاب زجاجية، سيارات تسير بالوقود الغازي، وكذلك قطارات فائقة السرعة تسير على وسائد هوائية.
لم يكن من المفاجيء نبوءات فيرن الدقيقة بدرجة مذهلة، لأنه كان منغمسا في عالم العلم، متجاوبا مع العقول العلمية من حوله. نشعر الآن بتقدير عظيم للمباديء العلمية التي مكنته من تحقيق تلك النبوءات المذهلة.
للأسف، فإن بعض أعظم علماء القرن التاسع عشر أخذوا إتجاها معاكسا وصنفوا بعضا من التكنولوجيات كمستحيلات ولا أمل فيها. اللورد كلفن على سبيل المثال الذي يعد أبرز فيزيائيي العصر الفيكتوري – دفن بجوار نيوتن في كنيسة ويستمينستر - صنف فكرة الأجسام الطائرة الأثقل من الهواء كالطيارة مثلا فكرة مستحيلة. أيضا كان يعتقد أن أشعة إكس خدعة وأن أشعة الراديو لا مستقبل لها. اللورد رزرفورد أيضا الذي إكتشف نواة الذرة، نبذ إمكانية صنع القنبلة الذرية، ووصف ذلك باللغو.
كيميائيي القرن التاسع عشر نبذوا البحث عن حجر الفلاسفة، تلك المادة الأسطورية التي تحول الرصاص إلى ذهب، واعلنوا موت تلك الأسطورة علميا. إعتمد كيميائيي القرن التاسع عشر في ذلك الحكم على مبدأ عدم قابلية العناصر للتغير، واليوم وبوجود المحطمات الذرية، نستطيع –نظريا – أن نحول ذرات الرصاص إلى ذهب. فكر كيف كانت ستبدو أفكار أجهزة التلفاز وأجهزة الكمبيوتر والإنترنت عند بداية القرن العشرين.
حتى وقت حديث كانت تعتبر الثقوب السوداء(*) بمثابة خيال علمي، في عام 1939 أينشتين نفسه كتب ورقة علمية "أثبتت" أن الثقوب السوداء لا يمكن أن تتكون. اليوم، تليسكوب هابل الفضائي وتلسكوب تشاندرا الذي يعمل باستخدام أشعة إكس كشفت عن آلاف الثقوب السوداء في الفضاء.
السبب في أن تلك التكنولوجيا كانت تعد من "المستحيلات" في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أن القوانين الأساسية للفيزياء والعلم لم تكن معروفة حتى ذلك الحين. وبالأخذ في الاعتبار الفجوات الهائلة في فهم العلم في ذلك الوقت، وعلى وجه الخصوص على المستوى الذري، فلا عجب أن تلك التقدمات كانت بمثابة مستحيلات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق